بابهت: الأیمان و الکفر محاضرة لفضیلة الأستاذ «کاکه احمد مفتیزاده»- (2)
فتبیّن بهذا الإیضاح المختصر لشأن هؤلاء الفرق الثلاث، الذین کانوا کلهم، غیرَ مسلمین: إنّما الکافر من فهم الحق و عرفه، ثم قام فی مواجهته عالماً متعمداً. و هذه الخصال (أی عدم قبول الحق و...) لها درجات: أغلظُها و أقواها ما کانت موجودة فی الذین سماهم الله کافرین. ولستُ على یقینِ أنّه لا یوجد فینا - حتى نحن المسلمین- شیء من تلک الخصال الکفریة، و لا أُصدّقُ أنّه لا یعرض لنا قطُّ أن نقابل الحقّ و ننکره بل أظنّ انّها موجودة فینا قلیلاً أو کثیراً.
فعلى سبیل المثال: دار بینی و بین أحدٍ من الناس جدالٌ عنیفٌ، و علا الضجیج والصخب، و التهبت جذوة الأنانیة إلتهابا، و الجدال بلغ مداه، ففی هذه الأحوال تجری على لسان هذا الرجل کلمة حق، و لا اصدّق أنّ الإیمان بلغ منّی درجة من الخلوص، أقبَلُ هذا الحق فور سماعه و اقول له صدقت و بالحق نطقت.
خُذْ مثالاً آخر: إنّ اباً کریماً له علاقه عاطفیة وتربویة مع إبنه و رغم أنّ دوافعه دوافعُ خیر لإصلاحه و إرشاده، ربّما ینتهی الأمر بهما فی مسألة من المسائل إلى المجاوبة و المجادلة، ثم یأتی الإبن فی تلک المسألة بکلام حق، فنرى الأب لبواعث عدیدة کالأنانیة مثلاً، أو لئلّا تنکسر
مهابة الأبوّة أمام إبنه: أو لئلّا تصاب بالخیبة والخسران فی هذا السعی المضنی المتواصل، لا یذعن بهذا الحق، و لا یستسلم له و یقف فی مواجهته.
و ایضاً مثال آخر: فإنّ بعض الرجال لهم تصورات باطلة و آراء زائفة، و یزعمون أنّ الدرجة التی نوه بها القرآن للرجال على النساء بقوله:« وَلِلرِّجَالِ علیهنَّ دَرَجَةٌ»[1] تقتضی ایضاً أنْ تکون الحقوق متفاوتة متفاضلة، فمِن حقِّ الرجل أنْ یصیح على إمرأته، و أنْ یأمرها و ینهاها کیف یشاء، و علیها أنْ تسمع و تطیع سواءٌ کان المأمور به حقاً أو باطلاً. و یحسبون أنّ المرأة بالنسبة إلى الرجل ناقصة معیبة، و الرجل کامل سالم لیس فیه عیب و لا نقص. أفمن کان هذه تصوراته و أفکاره یمکن أن یخطر بباله، أن یسمع لإمرأته و یستسلم لها إذا قالت کلمة حق و یذعن بها، أمْ یعتقد أنّ علیه أنْ یرُدَّ علیها قولها و لو کان حقاً و صحیحاً. فهذا الرجل مع أنّه هذه مواقفه مؤمن مسلم. و مع الأسف لا یعتنی اعتناءً لازماً، کی یتبیّن له، أنّ الدرجة التی نصّ علیها القرآن للرجال على النساء، هی نفس القوامیة التی ذکرها الله فی آیة أخرى من القرآن.[2] و هی عبارة من: «الإدارة العامة للأسرة»
و من الجدیر بالذّکرِ أنّ الله قبل أن یعین هذه الدرجة للرجال قال: « وَلَهُنَّ مِثْلُ الذی عَلَیْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ»[3] یعنی أنّ للنساء حقوقات متکافئة و متناسبة مقابل ما علیهن من الواجبات و التکالیف.
الرجل و المرأة متساویان فی نظر القرآن، « هُنَّ لِبَاسٌ لَّکُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ » و لکن مصلحة الأسرة فی علاقاتها الإجتماعیة مع الآخرین، تقتضی أنْ تکون القِوامةُ فیها بید الرجل. کما تقتضی هذه المصلحة، أنْ تکون القِوامةُ فی إدارة المنزل بکل أعمالها بید المرأة. إنْ قبلت هی بإرادتها الحرةِ أنْ تعمل فی البیت. فعمل المرأة فی بیتها موقوف على إذنها و قبولها، و إذا قبلتْ أنْ تعمل فی البیت[4] لا یجوز للرجل أن یتدخل فی شئونها الخاصة بها، و یستبدَّ بالرأی فی کیفیة إدارة المنزل و المهن المختلفة کالطبخ و...، و مع هذا یجب على الزوجین أن یتشاورا فی کل شئونهما المختلفة و المتعلقة بحیاتهما الزوجیة، و أن یکون کل شئونهما بالتشاور و الإئتمار کما هدانا القرآن الکریم[5] فی هذا الأمر و فی کل الأمور، للتی هی أقوم.
_________________
[1]- البقرة 228
[2]- الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. النساء 34
[3] - البقرة 187
[4] - المرأة تعمل فی بیت زوجها بإحدى هذه الصور الثلاثة.
- اما مجّاناً. لأنّها ذات ثراء و مال غیر محتاجة إلى غیرها. فتقوم بخدمات البیت الداخلة کالطبخ و الغسل و الکنس، و خدمة زوجها، و حضانة أولادها و ...، تبرعاً و إحسانا.
- و اِمّا مقابل أجرة کأجرة امثالها ألّائی یعملن فی دائرة رسمیة او شرکة او معمل او ...
- و امّا شریکة لزوجها مناصفة فی ثروات یکتسبانها من یوم عقدهما للنکاح و المرأة فی الصورة الأولى و الثانیة اذا طلقت لا تستحق من مال زوجها إلاّ المهر و حق المتعه و اذا مات زوجها لا تستحق إلاّ المهر و الربع او الثمن. ولکنها فی الصورة الثالثة تستحق ما ذکرناه فی الصورة الأولى و الثانیة و نصف ما یملکانه لأنّهما شریکان
[5] - إشارة إلى آیة السادسة من سورة الطلاق: « وَأْتَمِرُواْ بَیْنَکُمْ بِمَعْرُوفٍ... »
_____________________
نعم لکل واحد منهما حقوق محددة و خاصة به، فإذا قلنا مثلاً: اَنّ إدارة المنزل حقٌّ للمرأةِ فهذا لا یعنی أنّ للمرأة فی کل الجهات حقوقاً زائدة على حقوق الرجل، و إذا قلنا إنّ الإدارة العامة حقٌ للرجل، فهذا أیضاً لا یعنی أنّ للرجل حقوقاً اضافیة على حقوق المرأة من کل الجهات. هذا تصور باطل. لأنّهما فی الحقوق و الواجبات متساویان، و لکن بحسب الإستعدادات و المؤهّلات الخاصة التی خولّها اللهُ لکل واحد منهما.
قصدی من هذا الإیضاح، انّه قلمّا یوجد رجل مسلم ملتزم، بلغ به الإیمان حدّاً، إذا وقع فی الجدال مع زوجته، و نطقت هی بکلمة حق، أن یصدّقها فور سماعها، و یذعن بها، لأنّه بهذه التصورات الباطلة والأفکار البالیة الفاسدة التی تسربت إلى ذهنه، و سلکت إلى قلبه، یظنُّ ظنَّ الجاهلیة، أنّه هو خیر و أفضل من زوجته، و یزعم تصدیقاً لبعض الروایات المفتریات، أنّ المرأة ناقصة العقل و الدین. هذه الخصال توجد فی قاطبة الناس، إلاّ الذین أخلصوا الدّین لله. و هؤلاء هم الأنبیاء و الصدیقون و العظماء من الناس، علیهم الصلوات و التسلیمات أجمعین.
هؤلاء الرجال الأفاضل المفلحون، الذین زکّوا أنفسهم، هم وحدهم لم تبق فیهم شائبة الکفر. و أمّا سائر الناس فلیسوا کذلک.
فإذا أنا أبغضتُ حقاً، او قمت فی مواجهته، او أبدیت من نفسی عدم المحبة لشیء بلا مبرّر شرعی، فإنّ هذه البوادر التی بدرت من نفسی و تبدّت إلى الظهور، تُعدُّ من خصال الکفر.
و کذلک خصال الإیمان، فإنّها موجودة ایضاً فی الذین لا نعدّهم من المسلمین، بل لا نحسبهم مؤمنین، و هم الذین ما اعتقدوا إیماناً إلهیاً، و لا إیماناً دینیاً. أی لیسوا من الرّبانیین بل من الملحدین العلمانییّن.
نعم فإنّ من هذه الخصال، موجودة فی هؤلاء کما بیّنا: فمثلاً نرى أنّ أحدهم إذا سمع حقاً، و تبیّن له انّه حقٌ، یصدّقه و یذعن به، لولم تبلغ به الحال إلى حدّ الجدال، و لم تلتهب حمیة الجاهلیة و الأنانیة فیه، مع أنّه لیس له وراء قبول هذا الحق أی منافع شخصیة. نعم کثیراً ما نرى فی الملحدین من تلک الخصال، نرى فیهم خصلة الحبّ، ألحبّ الذی لیس فیه أی شائبة من الأنانیة، و لا وراءه شیء من الأغراض الشخصیة. نقلت لإصدقائی حدیث أحد هؤلاء الملحدین، و قد کنت أعُدّه رکناً من أرکان الکفر فی إیران، و إماماً من أئمته و لکن شاهدْتُ فیه من تلک الخصال الحمیدة، مع أنّ هذه الخصال لیست من خصال الکفر بل من خصال الإیمان.
و تبیّن من هذا الإیضاح: أنّ المؤمن الذی أخلص الدّین لله تعالى نقیاً من جمیع خصال الکفر نادرٌ جداً کما أنّ الکافر الذی أطبق الکفر قلبه بحیث لا توجد فیه نقطة بیضاء، نادرٌ أیضاً
و قد علمنا: أنّ الکافر یطلق على من بلغ الکفر منه حدّاً، قد طُبع على قلبه و طُمس فیه إستعداد قبول الحق، اللّهم إلّا ما یقبله لأنانیته و...، و هذا لا إعتبار له.
هنا یسأل السائل و یقول یعنی: ینبغی أن تطلق کلمة المُسلم على من کَمُل إیمانه و لم یبق فیه أیة خصلة من خصال الکفر؟
و یصحّح الأستاذ کلامه، و یقول: ألصواب أنْ تقول:«ألمؤمن لا المسلم» لأنّ المؤمن فی مقابل الکافر لا المسلم. ثمّ یجیب سؤاله: نعم إذا أردتّ اَنْ تستعمل کلمة المؤمن بمعناه الکامل، فإنّ المراد به: مَن لم تبق فیه أیة خصلة من خصال الکفر. هذا هو المؤمن حقّا. و أهل اللغة و أصحاب الأدب یقولون: إذا استعملت الکلمة مطلقة، ینبغی أن تحمل على المعنی الکامل الجامع. و إذا أطلقنا کلمة المؤمن بهذا الوجه، فإنّ المراد به من لم یبق فیه من الخصال الکفریة السلبیة شیء.
و کذلک کلمة الکافر. فإنّه إذا إستعملناه على هذا الوجه، فإنّ المراد به: من لم یوجد فیه من الخصال الإیمانیة الإیجابیة شیء. و ینبغی الإنتباه إلى أنّ کلمة المؤمن تطلق على المرءِ، و إنْ کان ضعیفَ الإیمان، رحمة من الله و فضلاً منه.
و أمّا بالنسبة للکافر فالأمر على عکس ذلک. فإنّه لا یجوز قطعاً إطلاق کلمة الکافر، إلّا على من تبیّن له الحقُ و قام فی مواجهته و أنکره. فإطلاق کلمة الکافر على من لم یتحقق فیه هذه الشروط یعَدّ خیانة بالدّین، و خروجاً عما تقتضیه کلمة قرآنیة فی معناها الشرعی. وأضیف إلى هذا الإیضاح و أقول: لا یجوز إطلاق کلمة الکافر إلا على من تبیّن له کل الحقّ، لا بعض الحقّ (لأنّه لیس أحد منّا بریئاً من إنکار بعض الحقایق و إنْ کان ضئیلاً کما مثّلنا من قبل). نعم إنّ الکافر مَنْ تبیّن له الحقُّ- کلّ الحقِّ- واضحاً جلیاً بلا غموض و لا إبهام، و بعد هذا قام فی مواجهته و أبغضه و حاربهُ، و حاوَلَ لإطفائه بِعِدّته وعُدّته.
نعم فإذا عرض الحق- کلُّ الحقِّ- على شخص، بکماله و وضوحه و طهارته، و تبیّنت له حقیقته، و انکشفت ماهیته ثم جحده و قام فی مواجهته، فإنّه یعدّ کافراً. و هؤلاء قلیل من الناس فی کل عصر.
أخی الکریم! «لیست فی العالم الیوم منطقة عُرِضت فیها الحقایق الدّینیة جلیاً واضحاً بلا غموض، فکیف نحکم على الناس بالکفر؟. لا أعرف؟ هل فیکم مَنْ کان ذاکراً تلک الأیام: أیام أوائل عهد الثورة فی إیران؟ کثیراً ما کانوا یقولون لی، و یلحّون علىّ فی ذلک العهد الملتهب المضطرب فی کردستان: أن أحکم على العصابات والأحزاب القومیة الموجودة المضادة للثّورة الإیرانیة بالکفر فنقاتلهم على أنّهم کافرون!!!
و قد کنت أبین لهم أنّه یوجد مِنْ بین هؤلاء، مَنْ یعتقد أننّا خائنون!!! : نخون قومنا و وطننا و بنی أبناءنا، و لَرُبّما بهذه الحجّة یخالفوننا، و یعذبون إخواننا و یدفنون زملائنا أحیاءً، و یأتون بکل ما أتوا من الفتک و العذاب و القتل. و إذا کان کذلک، فإنّ من یعمل هذه الأعمال بتلک الحجّة، فإنّه یفعل العبادة، لأنّه (بزعمه) قد قام فی مواجهة الخَوَنة، فکیف أحکم على من یقتل الخَوَنة بالکفر و أصدر فتوى قتله، و أقتله فعلاً؟!!
و على هذا الأساس و من هذا المنطلق، کنت اُبیّن لهم و أقول: إخوانی! إنْ قاتلناهم فَقَتَلنا أو قُتِلنا، فنحن القاتلون. و دلیل ذلک واضح، لأنّه ما کان فی استطاعتنا، أنْ ندّعی، أنّنا عرضنا الإسلام على أحد من هؤلاء، بکماله و وضوحه و حقیقته، و... و هو بعد تبیّنه و معرفته إیاه، قام فی مواجهته و أنکره و حاربه.
فعلى هذا لم یتحقق الشرط الأوّل لهذا الحکم. و هذه حقیقة لا شک فیها، لأنّنا فی الحقیقة ما قمنا بهذه المسؤولیة، إلّا فی بعض الأوقات، و فی بعض الجلسات المحدودة للغایة، و بالنسبة لمسائل معدودة، و ذلک من بعض الزوایا، لا من جمیع الجهات. لأنّ عرض حقیقة عظیمة کدین الإسلام، و تبلیغه إلى الناس بلاغاً مبیناً، یستدعی وقتاً مناسباً و مجالاً واسعاً، لا یتمّ بیوم و یومین، أو عشرة أیام و...، لأنّه ما استطعنا نحن و لا سائر الحرکات الإسلامیة، تهیئة کل المقدمات و المؤهّلات اللازمة للقیام بتلک المسؤولیة. و هذه الشروط هی:
اوّلاً: أنْ نفهم الإسلام نحن فهماً صحیحاً جیداً. و هذا لم یتحقق بعدُ، لأنّ فی فهمنا للإسلام الصحیح أخطاء کثیرة.
ثانیاً: إفترض أنّنا فهمناه فهماً صحیحاً و هل تصدّق أنّنا بیّناه للناس، و عرضناه علیهم على الوجه الذی تقتضیه الحکمة القرآنیه؟
و بعد هذین الشرطین هناک شرط آخر، و هو أنْ نکون نحن نماذج حیة و شواهد عملیةً لما ندعوا إلیه الناس.
و نؤکد القضیة، و نکررها بعد مرات، و نقول: إنّ الشرط اللازم لأنْ نحکم على أحد بأنّه کافر، هو أنْ یعرض علیه الإسلام عرضاً کاملاً نظیفاً قبل کل شیء، بحیث لا یبقی له فیه أی إبهام و لا غموض. أو بعبارة أخرى شایعة على ألسنة الناس- و إنْ لم یعلموا مرادها- : أنْ تقام علیه الحجة. ولکن ما المراد بإقامة الحجة على الناس فی نظر الإسلام، و کیف تتمّ هذه الحجة؟ نقول: أنْ یتضح الحق للمرء کاملاً، و یتبیّن له أنّه هو الحق بلا ریب، و یصبح کالذین یقول عنهم القرآن: «وَکانواْ مُسْتَبْصِرِینَ»[1] یعنی أنّ وضوح الحقّ بلغ مبلغاً، کان المرء یراه باُمّ عینیه، فإذا صار کما قلنا، ثم أنکره، و قام فی مواجهته فإنّه بلاریبٍ یصیر کافراً.
أیّها الأخ العزیز: إنّ هذه الشروط لم تتحقّق بعدُ فی هذا العصر. فإذا لم یتحقق الشرط، فکیف یتحقّق المشروط؟ و هو الحکم على کل من قام فی مواجهته بأنّه کافر.
_____________
[1]- العنکبوت 38
«الحرب فی الإسلام»
هذا الموضوع الذی سألت عنه فی بدایة البحث یعنی: ما هی حقیقة الحروب التی وقعت فی عهد النبی-صلى الله علیه وسلم- و فی عهد الخلفاء الراشدین، لاسیما فی عهد ابیبکر الصدیق - سلام الله علیه - بین المسلمین و بین الذین کانوا یعیشون فی المجتمع الإسلامی، -لأنّهم رفضوا بعض الأحکام الإسلامیة- و بینهم و بین الذین کانوا غیر مسلمین، و یقیمون خارج المجتمع الإسلامی؟ أقول لابد أنْ اُشیر أوّلاً: أنّ هذا الموضوع یحتاج إلى توضیح و تفصیل أکثر من هذا.
فإنّ العنوان العام لهذا الموضوع، هو «السیاسة الدولیة للإسلام» و هی عبارة عن: أنّ الإسلام کیف یتعامل مع غیر المسلمین، و أنّ الحاکمیة الإسلامیة کیف تتعامل مع الحکومات غیر الإسلامیة؟ و فی خلال البحث أشرتُ إلى قضیة هامة من بین القضایا التی تتعلّق بهذا الموضوع، و هو: أنّ الحرب بین الإسلام و الکفر لم تقع فی یوم من الأیام و لَنْ تقع أصلاً. یعنی: أنّ الإسلام لا یحارب شخصاً أو مجتمعاً، لأنّهما غیر مسلمین. حتى و لا یحاربهما لأنّهما کافران. و أعنی بالکافر، الکافر بمعناه الرئیسی، و هو الذی تبیّن له الحقّ و فهمه، و بعد هذا قام فی مواجهته. و هؤلاء الکافرون قلیلون جداً فی کل عصر.
و فی عصرنا هذا لا یکاد یوجد کافر، و أنا على یقین بأنّه مضت قرون کثیرة ما وُجد فیها کافر أیضاً. و الدلیل على ذلک واضح: لأنّ الإسلام لم یعرض على الناس على الوجه الصحیح. یعنی: أنّ الشرط الأول لإقامة الحجة، لم یتحقّق بعدُ فکیف بالشروط الأخرى؟
هذا و إذا حکمنا بعد تحقّق الشروط على مجتمع. بأنّه مجتمع کفرٍ، فإنّه لا یعنی أنّ الناس کلهم فی هذا المجتمع کافرون. بل المراد أنّ الحکام و الزعماء الذین یحکمون هذا المجتمع، و یتخذون موقفاً عدائیاً حیال الإسلام، و یحشدون و یهیئون الجیوشَ و یحرّضونهم على قتال المسلمین هم الکافرون حقّا. و أیضا إذا حکمنا على جیشهم بأنّه جیش الکفر، هذا هو الآخر، لا یعنی أنّ آحاد الجیش واحداً فواحداً کافرون، و تسمیتنا إیّاهم بجیش الکفر، لدخولهم فی معسکر الکفر، و لأنّهم یقاتلون فیه. و على کل حال، لو کان هناک مجتمع کافر، أو فرد کافر بمعناهما الرئیسی، فإنّ الإسلام لا یحاربهما لأنّهما کافران.
هذا و کنتم سمعتم بناءً لعرف خطأ، أنّ غیر المسلمین کلهم کافرون، هذا خطأ فاحشٌ، لأنّنا بیّنا أنّ مصطلح «غیر المسلمین» عام و مصطلح «الکافر» خاص. و فی نطاق هذا الغلط یقولون: إنّ الکافرین -و هم غیر المسلمین فی الحقیقة- ثلاث فرق:
1- الکافر الحربی أو المحارب. (و هذا اکثر استعمالاً من قسمیه، و بلغت شهرته بین الناس مبلغاً یتفوه به فی الغناء الکردی)
2- الکافر الذمی
3- الکافر المعاهد. (و هذا الأخیر غیر معروف عند أکثر الناس، ولکن الأوّل و الثانی مشهوران).
و الآن لا شأن لی أنْ أُبین وجه خطأ إستعمال «الکافر» هناک، و الصحیح: أنّ غیر المسلمین- کافرین أو غیر کافرین- ثلاثة أقسام:
الحربی: و هو من یحارب الإسلام.
والذمّی: و هو من یعیش بین المسلمین و فی بلدهم.
والمعاهد: و هو من یقیم فی منطقة مستقلة خارج بلاد المسلمین، و لا یحارب الإسلام و أهله، بل تّم بینه و بین الحاکمیة الإسلامیة توقیع معاهدات، و عقد إتفاقیات کثیرة، و على مستویات مختلفة: و أقلّها إتفاقیة معاهدة السلام و ترک المخاصمة بین الجانبین، و أبسط من هذا عقد إتفاقیة الهدنة و عدم الإعتداء بینهما.
و هذا أبسط و أضیق المعاهدات نطاقاً من بین المعاهدات الدولیة. و ربّما یفتح هذا طریقاً أمامنا: یفضی فی النهایة إلى معاهدة الثنائیة و الحلف العسکری، ثم إلى معاهدات أخرى.
أخی العزیز! فإنّ نفس هذا المصطلح -و هو قولهم إنّ الکافرین ثلاث فرق- أو بعبارته الصحیحة: أنّ غیر المسلمین ثلاث فرق، شاهد عیان على أنّ المحاربة مع الکفر لم یکن مشروعاً یوماً ما و إلاّ کیف یکون الکافر ذمّیاً، أو معاهداً.
فعلى هذا لیس فی الإسلام محاربة مع غیر المسلمین، لأنّهم غیر مسلمین حتّى و لا مع الکافرین لأنّهم کافرون.
حتّى لو کان الرجل کافراً، و المنطقة التی یقیم فیها دار کفر، فإنّ القتال معه لا یکون مشروعاً أیضاً، لأنّه یمکن أنْ تکون العلاقة بینه و بین الحاکمیة الإسلامیة علاقة معاهدة.
فإذا قلنا إنّ علاقة الحاکمیة الإسلامیة مع غیر المسلمین، و مع الکافرین، لها ثلاث صور، فإنّها ترُدّ بالضّرورة التصور الذی، یقول: إنّ الإسلام یجب علیه أنْ یقاتل الجانب الکافر أیاً کان. و القرآن بین، أنّ هناک ثلاثة أنواع من المواقف بالنسبة لغیر المسلمین: و صورة واحدة منها فقط هی القتال. و القتال واجب إذا هم قاتلونا قال تعالى: « وَقَاتِلُواْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ الذینَ یُقَاتِلُونَکُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ»[1] و أمّا إذا لم یقاتلونا. فلا یجوز لنا أنْ نقاتلهم. قال تعالى: « فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِینَ»[2]
یعنی إذا هم أنتهوا عن القتال فإنّه لا یجوز لکم أنْ تشنّوا علیهم هجوماً جدیداً. إلا إذا تبیّن لکم أنّهم یستمرّون فی الظلم، و أخذوا یخدعون المسلمین بکفّهم عن القتال بحسب الظاهر، و فی الواقع فتحوا جبهةً أخرى للإضرار بالمسلمین، والنیل بهم. و هذا یعنی أنّهم فی الحقیقة فی حال القتال.
فالقتال فی تلک الأحوال واجب على المسلمین.
و إذا لم یکن قتال بیننا و بین الذین یقیمون داخل البلاد الإسلامیة -و هم أهل الذّمة- و لا مع الذین یقیمون خارجها، فأقلّ إتفاقیة ممکنة بین الجانبین، إتفاقیة ترک المخاصمة، و عقد معاهدة الهدنة و إستمرار هذه الحالة رُبّما یفضی إلى عقد معاهدات أخرى ذات مستوى أرفع. تلک المصطلحات الثلاثة، أدّلة واضحة لأنْ یفهم المسلم، أنّ المسألة کما بیّنا لیست کما فهمها الکثیرون. إضافة إلى هذا: أنّ القرآن بآیاته الکثیرة شاهد على صحة ما بیّناه آنفاً.
___________________
[1] - البقره 190
[2] - البقره 193
_________________
و هنا، یلزم أنْ نذکّرکم بخطأ وقع فیه بعض المفسرین، و هکذا المترجمون -و لا عجب على المترجمین لأنّ الترجمة قاصرة جداً عن تأدیة المفاهیم القرآنیة العظیمة- فی فهم بعض آیات نزلت فی أوائل سورة التوبه فإنّهم -رحمهم الله- زعموا أنّ مشرکی مکة خاصة (لا سائر المشرکین فی بقیة المناطق) نظراً لطول مدة محاربتهم و قتالهم ضد المسلمین فی سنوات عدیدة، صاروا من الکافرین المحاربین. فعلى هذا لا یکون لهم عهد و لا حلف عند المسلمین أبداً. هذا فهم غیر صحیح لتلک الآیات، و لیس الأمر کذلک حتّى لمشرکی مکة. لأنّ المعاهدة معهم فی عهد النبی -صلى الله علیه وسلم- قبل فتحها کانت ثابتة واقعة، و أمّا بعد فتحها فلم یبق مشرک هناک بهذا المعنی و فی هذا المستوى، و لم یکن له مصداق واقعی فی الخارج حتّى نبحث عن المعاهدة فی تلک المرحلة کیف کانت. و هذا التفسیر للقرآن تفسیر خطأ، فسورة البراءة لا تقول کما یقول هؤلاء المفسرون.
و الأمر الآخر الذی أوْقع بعضَ المفسرین فی الخطأ، أنّهم حینما یفسرون آیةً من آیات القرآن لا ینظرون و لا یهتمون بالآیات الأخرى التی نزلت فی نفس الموضوع. ففی تفسیر سورة البراءة ارتکبوا نفس الخطأ. فإنّهم یفسرونها کانهم غافلون عن الآیات الأخرى التی نزلت بشأن الموضوع فی هذه السورة، و فی سائر سور القرآن.
قال الله تعالى: « بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الذینَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِکِینَ»[1] فإنّ ظاهر الآیة تعلن إنذار الله و رسوله إلى المشرکین الذین عُقدت معهم المعاهدة و الحلف فی مکة. فهذه الآیة فی أوّل السورة هو عنوان الموضوع، و الآیات الأخرى التی تأتی بعدها، إلى الآیات الخامسة عشرة و السادسة عشرة، تفصل هذا العنوان، ثم نرى بعد ذلک أنّ سائر الآیات إلى آخر السورة، تفصّل هذا الأمر باعتبارات شتّى، و فی زوایا مختلفه. و مع الأسف فإنّ المفسرین لایتدبرون، و لایدققون النظر، کی یدرکوا أنّ القرآن فی هذه الفواصل القصیرة، استثنی مرتین من هذا الحکم الکلی، حکم الذین استقاموا فی معاهداتهم و لم ینقضوا[2] العهد الذی عاهدوا علیه، حتّى أنّه نصّ فی إحدی الآیات على عنوان عهدٍ من تلک العهود، و یقول: إنّ من هؤلاء الذین استقاموا فی عهدهم نفراً کانوا عاهدوا الإسلام عند المسجد الحرام، و یقول عنهم القرآن.
___________
[1] - التوبة 1
[2] - اشارة الی الآیة الرابعه و هی: « إِلاَّ الذینَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِکِینَ ثُمَّ لَمْ یَنقُصُوکُمْ شَیْئاً وَلَمْ یُظَاهِرُواْ عَلَیْکُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ... »
« إِلاَّ الذینَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَکُمْ فَاسْتَقِیمُواْ لَهُمْ »[1] و على الأسف الشدید فإنّ بعض المفسرین ما إنْ رأی عنوان الموضوع فی أوّل السورة، حتّى استنتج منها و قال: «هذا إعلام عام لکل المشرکین فی مکة، بأنّ عهودهم کلها باطلة لا اعتبار لها، و أنّ المهلة التی اُوتیت لهم أربعة أشهر، و بعد انسلاخها یکون ما یکون. «فَسِیحُواْ فِی الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر».[2] بینما الأمر لیس کذلک. هنا ینبغی الأنتباه إلى موضوع هامّ و هو: أنّه لیس ببعیدٍ و لا غیر طبیعی أنْ نحکم على مشرکی مکة- نظراً لخیاناتهم المستمرة و فس